لم تقتصر مظاهر الخصوصيّة في حياة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - على جانب دون آخر ، فمنها ما يتعلّق بشخصه الكريم - حفظاً من الله وتكريماً - سواء الحسّية منها – كوجود ختم النبوّة - أم المعنوية ، وكان منها أيضاً ما يتعلّق بالخصائص الأخرويّة كالشفاعة والمقام المحمود ، والحوض والكوثر ، وغير ذلك .
وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن يضاف إلى تلك الاختصاصات جانبٌ آخر لا يقلّ أهمّية عن سابقيه ، ألا وهو الجانب الحربي ، فمن رعاية الله وتوفيقه أن أمدّ نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بسلاح الهيبة والرهبة منه ، وقذف الرعب في قلوب أعدائه ، ليعينه ذلك على نشر دعوته ، والدفاع عن ملّته ، ولا يخفى على أحد ما لهذا السلاح من أثرٍ في النصر والتفوّق ، وزعزعة معنويّات الأعداء ، وكسر قواهم النفسية .
فقد روى الإمام البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر... ) ، وفي رواية لأحمد : ( ونصرت بالرعب ، فيُرعب العدو وهو منّي مسيرة شهر ) .
وتظهر أثر هذه الهيبة بجلاء على الصعيدين الفردي والجماعي ، فأما الفردي فقد كان فيها عصمةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس ووقاية له من مكائدهم ، تحقيقاً لقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } ( المائدة : 67 ) ، وفي السيرة خير شاهدٍ على ذلك ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قوله : ( غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناحية نجد ، فلما رجع رجعنا معه ، فنزلنا في وادٍ كثير الشجر ، وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلّق بها سيفه ، قال جابر : فنمنا نومةً ثم دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجئناه ، فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده مصلتا ، فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت الله ، فها هو ذا جالس . ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه البخاري ، وزاد أحمد : (..فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : من يمنعك مني ؟ فأجابه : كن خير آخذ ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ ، قال : لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلى سبيله ) .
وتروي لنا كتب التاريخ الفزع الذي اعترى أبا سفيان يوم الفتح ، فقد رُوي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ( آل عمران : 151 ) قوله : " قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب – وكان يومئذ مشركاً - فرجع إلى مكة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ) .
وعلى الرغم من صولة قريش وجبروتها ، وقسوتها طغيانها ، إلا أن ذلك لم يكن ليقف أمام شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - المهيبة ، ومنطقه الصادق الذي كان موقعه عليهم أشدّ من وقع السنابل والرماح ، ولما سمع عتبة بن ربيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قوله تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} ( فصلت : 13 ) أصابه الرعب وقال : حسبك حسبك رواه أبو يعلى ، ولما اجتمعت قريش تسخر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتستهزيء به قال لهم : ( تسمعون يا معشر قريش : أما والذي نفس محمد بيده ، لقد جئتكم بالذبح ) فبلغ منهم الرعب أيّما مبلغ ، وقعدوا أذلّة صاغرين ، حتى يقول الراوي : " ..وما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع " رواه أحمد .
وأما على الصعيد الجماعي ، فقد تحدّث القرآن الكريم في سورة كاملة ، عن الهزيمة الكبرى التي لحقت بيهود بني النضير ، عندما أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أرضهم ، والتي كان من مظاهرها ما ذكره الله في قوله : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ( الحشر : 2 ) ، فكانت الدائرة عليهم وتخريب بيوتهم جرّاء ما أصابهم من الرعب .
ولما تسامع أهل الروم ومن معهم من القبائل العربية الموالية بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم ، تفرّقوا من بعد اجتماعهم ، وآثروا السلامة في نفوسهم وأموالهم وأراضيهم ، ودفعهم ذلك إلى مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفع الجزية ، على الرغم من تفوّقهم العددي والحربي ، وهو جزءٌ من الهيبة والرعب اللذين يقذفهما الله في قلوب أعدائه .
إلا أنه ينبغي لنا العلم أن هذه الخصلة حاصلة لأمته من بعده ، متى ما أقام المؤمنون الإسلام في نفوسهم ، والتزموا بسننه وقيمه ، ومبادئه وتوجيهاته .
ومن خصوصياته عليه الصلاة والسلام الحربية أيضاً إحلال الغنائم له ، ولم تكن أُحلِّت لأحد من قبله ، ذلك أن الغنائم في السابق كانت تُعدّ كسباً خبيثاً لأنها أخذت من العدو ، ولذلك وصف الله تعالى حليّ آل فرعون بقوله : { أوزاراً من زينة القوم } (طه : 87) ، وكان مصيرها في السابق أن تُجمع ثم تحرق ، أو تجمع وتترك إلى أن تأتيَ نار من السماء فتأكلها ، كما في قصة نبي الله يوشع عليه السلام التي رواها البخاري ، وفيها : ( فجمع الغنائم ، فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها ) ، وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لم تحل الغنائم لأحد من قبلكم ، كانت النار تنزل من السماء فتأكلها ) رواه الترمذي ، وهكذا أحلَّها الله إكراماً لخير أنبيائه ، وشملت أمته من بعده ، تبعاً له عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن إباحة مثل هذه الغنائم رحمةٌ من الله لعباده المؤمنين ، وتخفيفٌ لهم ، وفي رواية مسلم ما يشير إلى ذلك : ( ...فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ؛ ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا ) .
ومن خصوصيّاته - صلى الله عليه وسلم – الحربية أن الله تعالى أحلّ له مكة ساعة من نهار وذلك في فتح مكة ، ودليل ذلك ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة : ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي – وزاد البخاري : ولم تحل لأحد بعدي - ، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار ) متفق عليه .
وهكذا يتّضح كيف كان لخصوصيّاته عليه الصلاة والسلام انعكاسٌ مباشرٌ على قوّة المؤمنين ، وأثرٌ بالغٌ في تمكينهم ونصرتهم من جهة ، وهيبة جانبهم من جهة أخرى ، والله الموفّق .